Status             Fa   Ar   Tu   Ku   En   De   Sv   It   Fr   Sp  

نهاية مرحلة

نص خطاب الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الاول لحزب الشيوعي العمالي الايراني - ١٩٩٤



ان بحثي يتعلق بالمكانة الخاصة التي ينعقد فيها هذا المؤتمر. اعتقد، سواء من حيث المسار الموضوعي للاوضاع على الصعيد العالمي ام من حيث التحول الداخلي الطارئ على اليسار، وحتى من حيث مسار حركة حزبنا، اننا نمر بنهاية مرحلة وانتهاء مرحلة برزخ (مرحلة تيه بين مرحلتين- م). ان وصول مجمل هذه العمليات المختلفة الى منعطفات حاسمة في هذه المرحلة الخاصة، من الاساس، ليس امرا وليد الصدفة رغم انه قد يكون كذلك في بعض التفاصيل. ان المرحلة التي تشارف على الانتهاء لها جهات وابعاد مختلفة. واود ان الفت انظار المؤتمر لخصوصية المرحلة الراهنة هذه وجوانبها المهمة والتاكيد على الاستنتاجات التي ينبغي، برأيي، استخلاصها من هذه المكانة.

شهدنا، خلال السنوات القليلة المنصرمة، سلسلة من اهم التطورات التي جرت في مجمل القرن العشرين. ان هذه المرحلة التي يتم الحديث عنها بعبارات مثل مرحلة مابعد الحرب الباردة، مرحلة انهيار الكتلة الشرقية، بدء النظام العالمي الجديد وغيرها، يمكن مضاهاتها، من حيث اهميتها وحسمها في تاريخ المجتمع المعاصر، بمرحلة الحربين العالميتين او ثورة اكتوبر. وتعتبر، من الناحية الاقتصادية، ومن ناحية التحولات الايديولوجية الجارية في المجتمع، من ناحية التاثير الذي تتركه على رؤية الانسان للعالم وتصوره لفلسفة الحياة، واخيراً، وبالطبع من ناحية النضال والتاثير الذي يتركه على الشيوعيين واليسار، مرحلة استثنائية وتاريخية وحاسمة.

ليس حكمة منا بالطبع ان نكون قد شهدنا مثل هذه المرحلة التاريخية. بيد ان شيء ما كان حكمة منا، واود، قبل اي شيء آخر ان الفت انتباه المؤتمر اليه. ان لمرحلة التحول هذه ضحايا كثر.على شكل حركات مختلفة وافكار مختلفة وافاق متهافتة، ولم نكن جزءاً من هؤلاء الضحايا. لقد كانت مرحلة أُعلن فيها نهاية الشيوعية. اذا كان ٨٠٪ من هذا الادعاء كاذباً ايضا، فعلى اية حال، ان ٢٠٪ منه يشير الى حقيقة موضوعية تمثلت بانزواء اليسار واليسار الماركسي في المجتمع. لقد كانت حقيقة. اننا، وقبل سنوات من المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي الايراني وحتى بمعنى اكثر شمولية من مؤتمره الثاني، هبينا لاستقبال هذه الحقيقة. لقد راينا هذا الافق وتنبئنا بزوال هذا اليسار القائم وطرحنا الشيوعية العمالية بوصفها بديلا قبالة ذلك. في تلك المرحلة، لم يتم التضييق على الحركات اليسارية والشيوعية فحسب، بل تم فرض التراجع على مجمل الافكار الداعية للمساواة والتحرر والامل بالذات الانسانية والايمان بامكانية المجتمع على المضي نحو الافضل، وحتى على اية نظرة للعالم او تصور فلسفي يعرفان الانسان بوصفه عنصراً مؤثراً في حياته باي شكل من الاشكال. وبدأت، بالمقابل، مرحلة يأس وضياع وظلام فيما يخص مستقبل الانسان ومسار المجتمع الانساني. في هذه المرحلة، شهدنا سقوط العديد، عدة لاتحصى، من اناس كانوا يُعرِّفون انفسهم في المرحلة السابقة تقدميين، تحرريين، دعاة للمساواة، ومؤثرين ايجاباً في المجتمع. شهدنا تحولهم الى ضحايا. شهدنا وصول العديد منهم الى نتيجة مفادها ان لاشيء ذو طائل، بل حتى راحوا يلهجون خلف الاخرين انها ((نهاية التاريخ)) وان العالم كان هكذا، ويبقى هكذا. صيغ متنوعة تشير الى ان العالم باق على حاله ويجب ان ندعه وشأنه، صيغ تتناثر من مجمل زوايا المجتمع من عالم الفن وحتى السياسة والنظرية والايدولوجيا. من الجلي، كانت النتيجة التي خلفوا اليها، كمسلمة، والحكم الذي اعلن عنه بوصفه فكرة منتصرة هي ان ما انتصر هو المجتمع الراسمالي، هذا نصيب الانسان، انها الديمقراطية (نفس هذه التي تراها، ليست افكار القرن التاسع عشر) وهذا حال العمل والمعيشة، هذه ظواهر العالم وخفاباه، وعلى الانسان ان يدعها وشانها. ان هذا الانعزال ينبغي ان يقوم به كل فرد عبر انزواءه وانفراده لان التشظي التام للبشر كان جزء من خصائص تلك المرحلة: استلاب الفرد وخضوعه التام قبالة احداث تنثال عليه. من المشاهدة اليومية لقتل الناس بمعدل عشرات الآلاف يومياً والوقوف مسلوب الارادة تجاهها، حتى لا تعرف ما يحمله الغد لك، ماذا يحل بعملك وساعات العمل والاجور وماذا يحل بحق الحياة وحق التعليم. ان هذا الابهام يلف العالم. اعتقد اننا تخطينا الفترة الاولى لهذه المرحلة، وساوضح لاحقا كيف تم ذلك ولماذا. ولكن ماينبغي علينا ان نفتخر به، رغم كل شيء في هذه المرحلة، هو ليس عدم كوننا جزء من ضحايا هذه المرحلة فحسب، بل كنا من الاحداث الايجابية المعدودة التي حدثت في العالم في هذه المرحلة. كنا من الجذور المعدودة التي، وقبال ماطرحته البرجوازية فعلا من مستقبل مظلم وكالح رغم كل وعودها التي طرحتها امام العالم وملايين الناس، التي ابقت المجتمع على صلة بماض مفعم بالامل، بالنضالات العادلة السابقة، وبالافاق الانسانية العريضة التي كانت ترنو انظار البشرية اليها قبل عقود. لو تم حذف امثالنا من الساحة، اننا واناس وتيارات من امثالنا، اي اولئك الذين صمموا كذلك بالقول لا، ان للحرية معنى، وللمساواة بين الناس معنى، ولحركة الطبقة العاملة معنى، لغدت هذه المرحلة انقطاع اساسي في التاريخ. مثل حرب ذرية ينبغي ان تبدا المدنية بعدها من جديد. بيد ان اناس وقوى قاومت وسعت صوب انتشال العالم من هذا الوضع القذر والمستقبل الاقذر ووعدت بالانعطاف نحو ماض وذَكَّرَتْ ان مُثُلاً لازالت قائمة، وان المبادئ قائمة و ان التقدم قائم وان ماركس لازال قائماً والهدف الاشتراكي قائم وضمان البطالة قائم والحقوق المدنية والاجتماعية قائمة. لقد كنا هذه المقاومة، كنا جزء من جذور ابقت العالم متصلاً بعروق انسانية ومدنية ماضية. وعليه، فان الهجوم المجدد في المستقبل امراً ممكناً. كنا جزء من كوات حافظت على لوحات اكثر اصالة وانسانية وكبراً امام انظار هذا العالم.

حين اقول " اننا"، يمكن ان يراود امرء ما هنا : " ولكنني شخصياً لم اقم بعمل كثير في هذه المرحلة". لايهم ذلك. ان ماهو مهم هنا هو اننا جميعاً كنا قرميد حركة اعطت اجمالاً هذه الصورة عن نفسها ولعبت هذا الدور. برأيي، كان هذا الدور حاسماً في الميدان المباشر لفعالية هذه الحركة في ايران والمنطقة. ولم يكن عديم الاهمية خارجهما ايضاً. في المستقبل يعود الكثير منهم وينظر لهذه المرحلة، ولامندوحة له من الرجوع الى تاريخه عبرنا وعبر هذه الكوات ونقاط الوصل التي حافظنا نحن وامثالنا عليها مع البشرية قبل هذا البرزخ الاخير مع المثل الانسانية والاشتراكية والداعية للمساواة. على سبيل المثال، سعينا لابقاء ماركس حياً. تصوروا، ولو لحظة، لو شطبنا ماركس من الدنيا، ماذا يبقى منها. كنا في صف اناس سعوا ان لايدعو الدنيا محرومة من ماركس ومن لينين ومن افكار المساواة والحرية عموماً. ومهما كانت عليه هذه الكوات من صغر، ومهما كنا قليلوا الفعالية، مهما كنا حزب وحركة مقصورة على بلد او منطقة قليلة الاهمية وفرعية على الصعيد الدولي، على اية حال كنا نافذة ومن النوافذ الصغيرة، يمكن النظر الى اللوحات الكبيرة. ان امرءاً يحدق لاحقاً في هذه اللوحة، لن يشغل باله بحجم مسعانا، بل ما يشغله محتوى مسعانا. انه ذلك الشيء الذي، برأيي، بوسعنا ان نخرج مرفوعي الرأس به بغض النظر عن حجم مسعانا الفردي والجماعي. نستطيع ان نلتفت للوراء ونقول ان في تلك السنوات، في تلك الفترة التي اصابت فيها قذيفة مركز العالم البرجوازي وتناثر الوحل في جميع ارجائه وسقط الكثير جرائها ايضا بشكل استعصى تمييز الوحل عن الضحايا، كنا ندرك مانقول. وقفنا وحافظنا على تلك الآفاق ماثلة امام الجماهير. اجبنا عليها اليوم باعتقادي. وصلت مرحلة البرزخ هذه، بحكم الظروف الموضوعية وكذلك بحكم مساع من هذا النوع، خاتمتها، وبلغت نقطة يمكن الحديث فيها مرة اخرى عن التقدم والسعي من اجل التقدم.

ان هذا المؤتمر ينبغي ان يكون مؤتمر الاقرار بهذه الحقيقة عن انفسنا. ان ما بوسعه ان يكون مبعث فخرنا واعتزازنا هو ليس كوننا قد قمنا بعمل في غاية الجودة، او تحولنا الى حزب عظيم او جذبنا مئات الآلاف الى صفوفنا. ان واقع حالنا اليوم ليس كذلك. بل هو اننا ننتمي الى افضل التيارات الفكرية السياسية للعقد الاخير، وكون حركتنا في هذه المرحلة احد افضل واجمل واكثر التيارات الفكرية السياسية في المجتمع ايجابية وصفاءاً. برأيي، ان من انضم، في هذه السنوات العصيبة الى هذه الحركة، بوسعه فعلاً ان يرفع رأسه فخرا اليوم. ان هذا فخر محق لهذا المؤتمر. ان هذا المؤتمر ليس وليدة الصدفة. كنا نستطيع ان نسقط، نتفتت ايضاً، كنا نستطيع ان ندخل اكثر الصراعات بلاهة وتفاهة مع اكثر التيارات بلاهة وتفاهة. ولكننا لم نقم بذلك. مضينا قدماً. وبرأيي، فكرنا بوضوح اكثر من اي وقت آخر، وحددنا مسارنا. هل يساورنا الرضا عن انفسنا كحزب؟ برأيي، بوصفنا حزب او فعالين حركة لا يراودنا كثيراً الشعور بالرضا. لكن مكانتنا، مكانتنا في المجتمع خلال هذه السنوات (٨-١٠) المنصرمة، مكانة معتبرة، وعلينا ان ننظر لها بوصفها نقطة انطلاق حياتية لنا، وان نبني من هنا حزبنا.

اسمحوا لي ان اعود الى خصوصيات المرحلة التي تشارف على الانتهاء. ان هذه المرحلة قد وصلت في بعض الجوانب، من الناحية الموضوعية، الى مطافها الاخير. ومن جوانب آخرى، يمكن ويجب بقوة العنصر الفعال، بقوة حركات اجتماعية، بقوانا، ان ننهيها.

ان الشعارات المحورية لتلك المرحلة، اذا تتذكروا، " انهيار الشيوعية" وانتهاء الحرب الباردة وبدء نظام عالمي جديد، او في الواقع كانت ضرورة اعادة الهيكلة العالمية في العالم البرجوازي. بيد ان تحت راية هذه الشعارات، بدأت، برأيي، مرحلة برزخ لايعلم فيها أي ما ماذا سيحل. لم يكن الحال على هذا الغرار بسقوط الكتلة الشرقية او ما يسمى بـ " نهاية الشيوعية" ان تعلم البرجوازية بان ما سيكون عليه حال الامور في المرحلة اللاحقة. وقد اكدنا في وقتها بالذات ان هذه المرحلة، عرضاً، ليست مرحلة وضوح بالنسبة للبرجوازية، ليست مرحلة "السلام" و"الديمقراطية"، بل اساساً مرحلة التشوش. لقد ذكرنا ان مركز هذا التشوش سيكون الغرب ذاته الذي اضاع بوصلته الايديولوجية والسياسية، بل ستوضع حتى معتقداته الاقتصادية الاساسية تحت طائلة السؤال. ان كل هذا قد حدث بالضبط. انهار يمين هذا المجتمع ويساره. ان اوساط "اليمين الجديد" للمرحلة السابقة الذين يتقاضون اجور عبوديتهم من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في هذه المرحلة، وجراء الخوف من الفوضى الاجتماعية في البلدان المختلفة وتصاعد النزعة القومية بلغوا حداً باتوا يعضون اصابع الندم على غياب جناح يساري برجوازي مؤثر. في الطرف المقابل، تسابق قسم كبير من يساري الامس حول تبني سياسات يمينية. وقبل ذلك، كان من المقرر ان تمضي اوربا، بجلاء، نحو الوحدة الاوربية، ولكن بعد هذه التطورات، اصبح معلوما انه لم تصبح الوحدة في علم الغيب فحسب، بل تعمقت الهوة بين اطرافها. اذ يجري اليوم صراع شديد حتى حول تحديد رئيس للهيئة الاوربية. لم يفشلوا في الاتفاق على الوحدة النقدية فحسب، بل حتى آلية الوحدة النقدية انهارت ايضاً. ويعود نفس طرح الوحدة الاوربية على سبيل المثال، الى مرحلة كان استقطاب الشرق والغرب سائداً على العالم. اما اليوم فقد تغيرت الوضعية من اساسها، وان مجمل هذا الطرح يغط في ازمة. انهم حتى يفتقدون الى مفكر جدير ومحفل فكري ذا نفوذ يدلّون المرء عليهما. لقد قيل ان السوق حلال جميع المشكلات، ولكن تحول لجم جماح السوق، من جديد، في البلدان المختلفة الى لغة العصر. اليوم، في اكثرية البلدان، نرى ان جني الاصوات الانتخابية والفوز في الانتخابات اصبح من نصيب تلك الاجنحة التي تعد بتعديل الآلية الجامحة للسوق. كما اوقف نفس دعاة الغرب في روسيا دعمهم للجناح المدافع عن السوق الحر، واصطفوا بطيب خاطر مع سياسة الاجنحة الاكثر اعتدالاً. أي بكلمة واحدة، كشفت تفسيرات البرجوازية وتنبؤاتها عن خوائها التام. اما ما تبين واقعياً، وهو ما وضعنا اصبعنا عليه في وقته، كان التشتت والفراغ الايدولوجي والخواءالمعنوي وتهافت الحركات والنشاطات الحزبية الاصيلة للبرجوازية نفسها. ان ايطاليا نموذجاً واحداً فقط. الحرب في يوغسلافيا في قلب اوربا نموذجاً آخر. ان عالمهم والملامح الواقعية لعالم ما بعد الحرب الباردة هو مانراه امام اعيننا. ان السمة الاساسية لهذه المرحلة هي التشوش. ليست هذه المرحلة مرحلة انتصار هذا الخط البرجوازي او ذاك. كانت مرحلة برزخ وعدم وضوح المصير وابهام. تحطمت اطر سابقة، غدت الصيغ القديمة عديمة الفائدة، والاجواء مفتوحة. وفي هذه الاجواء، وقفت قوى اجتماعية تصارع بعضها البعض. الجميع يرفع رايته في هذه الاجواء ويعزف لحنه، ويسعى من اجل احراز النصر والتقدم.

ليس ثمة امكانية هنا للحديث عن العواقب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية لمرحلة البرزخ هذه. بيد ان ما اود التأكيد عليه هنا هو ان الفترة الاولى من هذه المرحلة قد انتهت الآن. انه لامراً معلوماً كون الافق الذي طرحته البرجوازية أمام العالم، عبر دعاياتها في بداية هذه المرحلة، طناناً. وأُركِنَتْ جانباً مفاهيم وصيغ محورية الواحدة تلو الاخرى من امثال " نهاية الشيوعية" و "السوق الحر" و"سيادة الديمقراطية" و " انتهاء الديكتاتوريات" و"السلم العالمي" و " عالم وحيد القوى العظمى" و " انتصار الحضارة الغربية" وغيرها التي طرحت على لسان وسائل الاعلام وساسة البرجوازية ومتحدثيها بوصفها محتوى المرحلة الجديدة وهيمنت على المجتمع طيلة تلك المدة دون ان تركد. إذ لم يتخلوا الان عن الحديث عن نهاية الشيوعية فحسب، بل حول ما ينبغي عمله حيال هؤلاء " الشيوعيين السابقين" الذين غيروا اسمائهم ويعودون الواحد تلو الآخر للسلطة. وينطبق الامر ذاته على نموذج اقتصاد السوق الحر. انه لامر واقع ان نموذج اقتصاد الدولة قد انهزم، بيد ان الهجمة اليمينية على تحكم وتدخل الدولة كان من السعة حداً بحيث يُقابل اليوم بموجة تراجع بعضها جراء ضغط الجماهير وبعضها الآخر بسبب ما تتركه من خطورة قد تطيح بمجمل اسس الوضع الاقتصادي في العديد من البلدان، وتخلق عواقب سياسية معقدة، مما حدى باجنحة مختلفة من نفس البرجوازية "المنتصرة" الى تأييد ممارسة تدخل الدولة وسيطرتها. رفعت الاشتراكية الديمقراطية رأسها. انهم يعلنون تماما بعدم قيامهم بمثل الهجمة التي قام بها الجناح اليميني. ان هذا الوعد بالاعتدال يمثل مجمل المحتوى السياسي وبرنامج الاشتراكية الديمقراطية اليوم. اذ لم تطرح نموذجا للحكومة ولا للاقتصاد. مع كل هذا، فان نفس هذا الوعد بالاعتدال، اي الوعد بان لاتشهر سيفها في خدمة السوق، جعل المستقبل السياسي لهذا التيار اكثر وضوحاً في الكثير من البلدان.

برأيي، ان مرحلة البرزخ هذه، بالدرجة الاولى، وفي هذا الجانب وصلت خاتمتها حيث ركد الغبار المتطاير السابق، ودخلت قوى اكثر كلاسيكية الميدان. ان نفس حقيقة قيام الاصلاحيون في بلدان الكتلة الشرقية السابقة، مرة اخرى، بحصاد الاصوات الانتخابية، وفي الغرب تسير الجماهير بأضطراد نحو الادلاء باصواتها لصالح جناح الوسط ولهذا اولت اهتمامها اكثر للاشتراكية الديمقراطية؛ وحقيقة ان اليمين الجديد الذي كان رأس حربة هجمة الغرب في المراحل الاخيرة من الحرب الباردة، قد تم اركانه الان جانباً فعلياً ويسير نحو الافول، كلها دليل على ركود نموها وبقاء نماذج اكثر اصالة في الميدان السياسي للمجتمع. وغدت تمايلات الجماهير وادراكاتها وسلوكها اكثر " عقلانية" واكثر شبهاً بالماضي. ان القوى التي ولجت الميدان قوى اكثر كلاسيكية. ولج اليساريون و الشيوعيون والليبراليون والاشتراكيون الديمقراطيون و الفاشيون وغيرهم مرة اخرى الميدان. ويسدل الستار على تلك الفوضى وهلامية الشكل السابقة.


للخطاب تتمة

على الصعيد العالمي، اصبح معلوماً انه ليس امراً مقرراً ان يكون لدى مجمل البلدان برلماناً. يمكن ان يكون هذا مصدر للمشاكل. يمكن ان يكون هناك جنرالات مستبدة وملالي رجعيين ايضاً في السلطة. انه كلام البرجوازية اليوم. من الواضح في حساباتهم اليوم ان الاستقرار وتفادي الاضطرابات غير الملجمة والانهيار غير المدروس للاوضاع القائمة اهم من اي عامل آخر. تبعاً لذلك، ليس غياب اي اثر عن الازدهار العالمي للديمقراطية البرلمانية فحسب، بل ان انظمة سابقة لازالت في السلطة وتشعر بالثقة اكثر من اي وقت آخر. وفهمت جماهير البلدان المتخلفة ان ليس ثمة اثر لتلك المسائل (أي الديمقراطية والبرلمان- م) وليس من المقرر ان يطرأ حدث خاص بفضل " النظام الجديد". ان بغى أمرء ما نشدان الحرية، عليه ان يفكر بحاله مثل السابق. ان هذا يناقض الاجواء السائدة لبداية هذه المرحلة. تتذكرون كيف اصطف المثقفون والاواني بايدبهم في طوابير يستجدون حصتهم من الديمقراطية من امريكا والقوى الغربية. واصبح معلوماً مرة اخرى الان ان مصير المجتمعات تشكله قوى وحركات اجتماعية. ان التحركات والشعارات المنمقة وقليلة المحتوى لبداية هذه المرحلة قد بهت بريقها الآن ليحل محلها تعاظم تلهفهم الى برامج وسياسات قوى اجتماعية. لقد تعاظم اهتمام الناس بالسياسة وغدا اكثر اتزاناً. وقد اكتسبت التمايلات والصراعات السياسية تعبيراً اكثر بلوغاً ونضجاً.

تذكروا هجمة اليمين في الثمانينات، تذكروا تلك النزعة الفردية الطاغية، ونزعة الارتقاء الوظيفي تلك. وذلك التحقير للمصلحة الاجتماعية وحب الانسان لابناء جنسه وذلك الهيص والصخب الدعائي والتهريج العقائدي لبداية هذه المرحلة من البرزخ وقارنوها باليوم، لاترون انعطافة مهمة جارية اذا ما قورنت ببداية هذه المرحلة الاخيرة فحسب، بل ان الجماهير بعضها تعطي ردا تصحيحياً عظيما لعقد الثمانينات.

على اية حال، ان هذا هو استنتاجي. ولاتقتضي الضرورة اعطاء حكم نظري حاد ومعمق لتصنيف هذه المراحل. من الممكن ان يكون للرفاق الآخرين وجهة نظر أخرى. لكن على اية حال يتمثل تقييمي باننا خرجنا من مرحلة البرزخ هذه التي اعقبت انهيار الكتلة الشرقية وغدت الاجواء لعمل الاحزاب السياسية مشرعة اكثر. وبخصوص ذلك، يمكن رؤية، وبوضوح، ان اعلان الانتماء مرة اخرى لنظرة انسانية والسخط على المجتمع القائم من زاوية انسانية، وبعض الاحيان حتى اشتراكية يجد له مكاناً ومبعث مكانة للافراد. ويمكن رؤية هذا لا في عالم السياسة فحسب، بل في ميدان الحياة الثقافية والادبية للسنة او السنتين الاخيرتين.

برأيي، لقد أزفت مرة أخرى ساعة الهجمة الماركسية، وبوسع الشيوعيون أن يولجوا الميدان بكامل هيئاتهم الواقعية. لم يبدأ تراجع الماركسية وإنزواء الماركسيين مع نهاية الحرب الباردة، بل يعود الى قبل ذلك بسنوات. في هذا الخصوص، كانت التطورات في الإتحاد السوفييتي حاسمة. إن ذلك لا يعني كون الإتحاد السوفييتي مركز الماركسية والشيوعية، بل بسبب أن وجود قطب مقتدر يدعي الشيوعية على الصعيد العالمي وإن يكن كاذباً يعطي الماركسيين والمنتقدين الماركسيين للإتحاد السوفييتي مكانة مهمة في الميدان السياسي والفكري على الصعيد العالمي ويضعهم في دائرة الضوء. كان الركود الإقتصادي والجمود الإجتماعي اللذان أصابا الإتحاد السوفيتي في نهاية مرحلة بريجينيف حتى إستلام غورباتشوف للسلطة يستحيل إنكارهما. وبدأ مع غورباتشوف وبحث البروستريكا إضمحلال هذا القطب. كان أمراً واضحاً من وقتها،وقد تنبئنا في حينه أيضاً، بأن الماركسية تمضي نحو إشتداد الضغوطات عليها ونحو الإنزواء. مع أفول نجم الإتحاد السوفييتي، إبتعدت الماركسية الواقعية والمنتقدة للإتحاد السوفييتي، على أية حال، ولفترة، عن مركز ميدان النضال الفكري والسياسي. وإن هذا قد جرى في مرحلة البرزخ التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. ما أود قوله اليوم هو أن الأجواء مناسبة مرة أخرى لفعالية الشيوعيين. ليس ثمة شك في ان التهريج المعادي للشيوعية للمتشدقين البرجوازيين وضجيج نهاية الشيوعية حتى وإن خَفَّتْ على أية لا ولن ينتهيا قط. بيد أن ثمة حقيقة محسوسة تماماً الا وهي ان أوضاع العالم ملائمة تماماً لقيام الشيوعيين بولوج الميدان وأن يجهروا بما لديهم وأن يجمعوا القوى بصورة أكبر مما كانت عليه قبل عشر سنوات خلت. تلك المرحلة كانت مرحلة تراجع وأفول اليسارية واليوم تطورها وتقدمها مجدداً.

إسمحوا لي أن أعود بإختصار الى تأثيرات هذه المرحلة على اليسار وخصوصا على تيارنا وأختم الحديث بهذا البحث. إن مرحلة البرزخ وإنعدام وضوح المصير ليستا بالضرورة مرحلة خنوع وركود. في الحقيقة ان أغلب الوقت كان عكس ذلك.

إن مثل هذه المراحل هي مراحل تراخي اللواجم والمعتقدات والأنماط واللواجم وأشكال السيطرة والتحكم التقليدية التي تحكم حياة البشر وممارستهم. ان مراحل البرزخ والأزمة في المجتمع هي عادة مراحل يشعر الإنسان بحرية عمل أكبر وتقل وطأة التقاليد والمؤسسات والأحزاب والحركات الراسخة على أذهان البشر. لهذا يشعر الفرد بحرية عمل واستقلال معنوي وعملي أكبر. ظهرت في مثل هذه المرحلة بعضاً من أبرز الإبتكارات في ميادين مختلفة. فما أن تنحط مكانة التقليد الرسمي في أي ميدان ويتم التشكيك به وتوضع الردود الرسمية والحقائق المقبولة سابقاً تحت طائلة السؤال وما أن يتم إقرار فقدان الأنماط القديمة لهالتها وفعاليتها وسمتها وخصائصها، ومن المحتم، مكانتها وسطوتها السابقة، تتوفر الأرضية لإمكانية الإبداع والتقصي والنقد.

بالطبع، إن حصيلة هذه المساعي ليست بالضرورة دوماً أصيلة وتدفع للأمام. في هذه المرحلة، جرت هذه الحركة بصورة مليونية على صعيد اليسار. إذ مضى الكثير لحد لم ينتقدوا فيه أفكارهم الجامدة فحسب، بل حتى آمالهم السابقة نفسها، لا الكلايش فحسب، بل ضحكوا على نياتهم الثورية السابقة ذاتها، لا عقائدهم فحسب، بل شككوا في حسن سريرتهم حتى الآن. في اليسار الإيراني وبين صفوفنا ذاتها، قام الكثير بذلك. إن العديد والأغلبية العظمى منهم، وإمتداداً لعقليتهم وشكوكهم، لم يعودوا الى أي نوع من اليسارية وتحولوا الى مكتشفين جدد لحسنات المجتمع الرأسمالي. راحوا يلهثون وراء المايكروفونات وأصبحوا منابر لكيل المديح والثناء على الديمقراطية ومن ضمنهم أناس إنتزعناهم، بعد لأي، من الإشتراكية الريفية والعالمثالثية. إنظروا الى صحف اليسار العالمي في هذه المرحلة، سترون كيف شرعت بسرعة في أوساطهم أبواب بحث مفاده أن نفسح مجالاً للديمقراطية في الإشتراكية. ركب القسم الأعظم منهم هذه الموجة. برأيي، لقد ذهبوا لأنهم إنضموا أصلاً تحت تأثير ضغط وشيوع ومكانة الشيوعية والماركسية في الأجواء السياسية والجامعية. أما الآن، وقد تعرضت الشيوعية والماركسية لهجوم ويمارس عليها الضغط رسمياً وعلنياً، تحرروا هم من هذا الضغط وشرعوا بإطلاق العنان للغتهم ونغمتهم. إن القسم الأعظم منهم، على وجه الخصوص، قد إنجذب نحو التيارات الفكرية والسياسية الرائجة الآن في ما يسمى "البورصة".

لقد شهدنا ونشهد جميعاً مرحلة التشتت هذه ولعبت دوراً في مسارنا أيضاً. إن هذه التأثيرات ذات أبعاد إيجابية وسلبية أيضاً. تعززت الإستقلالية في التفكير وإتخاذ القرارات وتجنب القبول والإجترار الساذج للنظرات الرسمية والأحكام المسلم بها، في الوقت ذاته، جوبهت الحقائق الإشتراكية والثورية المهمة باللامبالاة وعدم الإكتراث، فيما شاع القيام بالفعالية السياسية كفرد وفعال هذه الحركة أو تلك ذا مشاريع سياسية وشخصية. في الوقت ذاته، ضعفت أجواء العمل المشترك تحت ظل الخطط والمشاريع المشتركة الحزبية أو النشاط كعضو في منظمة معينة كجزء من خطة أوسع. وعلى صعيد أشمل، كانت هذه المرحلة، فيما يخص قسم من اليسار الإيراني الذي ترعرع في أحضان تقليد تقديس تخلفه القومي، مرحلة تعمق النظرة للحياة والمجتمع والثقافة. إذ بلغ بعضهم في هذه المرحلة حقيقة ان ما وراء عالمهم القومي والقطري وحركتهم ثمة عالم أكثر إتساعاً ذا تنوع وتعقد وعمق ومنجزات عظيمة. إن تعمق النظرات كان ممكناً لأن في هذه المرحلة زال تحكم ونفوذ الحركات والتقاليد المتخلفة على البعض.

كانت هذه المرحلة، من عدة جوانب، مرحلة مراجعة بالنسبة للعديد. ليست "نزعة إعادة النظر والتحريفية"، ليس خلق مدارس لتفسير الأفكار السابقة بما يخدم مصالح إجتماعية خاصة، بل مرحلة مراجعة فردية في فلسفة الحياة، في الأفكار والآمال والأفاق، في تأريخ الحياة، في منظومة القيم والعقائد. وصل الكثير منهم، من وجهة نظرهم، الى نتائج حسنة. أعتقد إن بعضاً منهم قد حقق فعلاً نتائج حسنة. إن معايير الناس قد تغيرت. إستطاع العديد منهم أن يدرك البعد الإنساني للإشتراكية والود العميق الذي تكنه للإنسان. أدرك الكثير منهم علاقة الإشتراكية بالحرية والرفاه الإنساني بصورة أفضل ورسخ ثقته بنفسه. إن بعض الأحكام الماركسية في مرحلة الحرب الباردة والتي كانت أسيرة ثقل تعاليم (شيوعية المعسكرات)، لم توصف بوضوح وصواب، ولم تسمع بصفاء ذهن، ولم تدرك بعمق، من جملة ذلك أبحاثنا حول الشيوعية العمالية، طُرِحَتْ في هذه المرحلة بوضوح وشفافية أكبر ونالت إستحساناً وقبولاً.

وعليه، فيما يخص اليسار وبصورة أكثر تحديداً تيار الشيوعية العمالية، فأن مرحلة البرزخ هذه، مرحلة الغموض والتشتت والشكوك والمراجعة تسير نحو خاتمتها. وبالطبع، وبعكس المسارات الموضوعية الخارجية، أعتقد إن إنهاء هذه المرحلة فعلاً والخروج من الأجواء التي تسير نحو خاتمتها بحكم الظروف الموضوعية للمرحلة مسألة مرهونة بالممارسة. لا تنتهي هذه المرحلة بالنسبة للشيوعيين عفوياً وتلقائياً، بل يجب إنهائها بوعي. إن الظروف الموضوعية الراهنة تفسح لنا المجال للعودة وليس إنهاء دورة آلتيه هذه فحسب، بل الإستفادة من العمق والتنوع والطاقات العالية التي كسبناها لصب الماء في طاحونة نضال هادف ومنظم.

إن أحد نتائج السنوات الأخيرة التي يمكن مشاهدتها في صفوفنا هو إنكفاء "العمل الشيوعي المباشر". دعني أنقل لكم منظوري للعمل الشيوعي المباشر بجمل معدودات وبصورة حسية. إن العمل الشيوعي يعني الإنطلاق ومخاطبة كل من يعاني جراء هذا المجتمع وعلى رأسهم الطبقة العاملة حول ضرورة أن يكون شيوعياً. أقيموا الصلات والروابط مع سائر الشيوعيين، دافعوا في ميدان السياسة عن الشيوعية، إدلو بأصواتكم الإنتخابية لصالح الشيوعيين. طالعوا مؤلفات ماركس. قاوموا قمع الشيوعية والإشتراكية. إنتقدوا التيارات الأخرى في المجتمع وداخل حركة الطبقة العاملة ودلًوا على نقاط ضعفها. قولوا لهم إن وعود وسبل الحل غير الشيوعية كثيرة في تأريخ المجتمع وتاريخ العمال، ولكن أيً منها لم تعط رداً على حاجة الطبقة العاملة والمجتمع للتحرر. إن هذا الضرب من الأعمال لهو عمل شيوعي مباشر. عملاً يزيد من عدد الشيوعيين ويعاظم من القدرة السياسية والإجتماعية للشيوعية.

لم يكن هذا الضرب من الفعاليات مركز إهتمام حزبنا في هذه السنوات. كان الجميع ناشطين بالطبع. سعى الجميع عبر سبل مختلفة إلى إيصال خيرهم إلى المجتمع والأقسام الدنيا والمستغَلة والتي يرسف بها التمييز. ولكن احكموا أنتم بأنفسكم كم كان العمل الشيوعي المباشر، العمل بوصفنا شيوعيين في الحركات الفكرية، بوصفنا إشتراكيين في الحركات العمالية، العمل بوصفنا كتل وأجنحة شيوعية في النقابات، العمل بوصفنا محرضين شيوعيين في الشوارع، وأناس شيوعيين في كل محيط عمل ومعيشة، السمة المحددة لهذه الفعاليات. إن ما هو طاغ على عملنا هو ظهورنا كمقدمي خدمات سياسية- نضالية لطيف من الحركات قبالة طيف من المسائل والتي جميعها إجمالاً لا تشكل العمل الذي ذكرته، أي العمل الشيوعي المباشر. وقد كان لا مفر من ذلك إلى حد ما نظراً للأجواء السائدة على المجتمع وعلى مجمل الحركة الإشتراكية. برأيي، إن الهجمة الواسعة على الشيوعية والفكر الماركسي قلبت حال الأمور إلى الحد الذي يجعل التيار الذي ينبغي وبغض النظر عن توازن القوى والصراع النظري المحيط به إجترار معتقداته الداخلية وتكرارها لنفسها بصورة محض ويديم عمله السابق بنفس الأساليب والأشكال، أقرب شبه بفئة دينية. برأيي، أن يميل الكثير إلى إلتزام الصمت تجاه المسائل الفكرية والسياسية في مثل هذه الأوضاع، ويفلتوا أنفسهم من الناحية العملية من ضغط المطرقة وأن ينشغلوا بإسداء الخدمات لحركات قائمة بالفعل ومتنوعة فإنه لرد فعل طبيعي جداً وأمر يمكن فهم مبرراته. يمكن فهمه لكن ليس تأييده. على اية حال إن حديثي اليوم يتعلق بأن هذه المرحلة قد أسدل الستار عليها.

على اية حال، يتمثل هدفي من هذا البحث جلب إنتباه المؤتمر إلى السؤال التالي: هل إن حزبنا قادر على رفع راية إنهاء مرحلة البرزخ لصالح اليسار على الأقل القسم الذي بمفدورنا التأثير عليه؟ إنه سؤال مفتوح. برأيي، نستطيع ذلك. إن مكانتنا السياسية والآيديولوجية الموضوعية داخل اليسار الإيراني وفي يسار سائر البلدان إلى الحد الذي لهم إطًلاع على حزبنا لهي مكانة سليمة وتبعث على الفخر، إنها مكانة إيجابية. إني شخصياً، وإذا ما أخذنا هذه الحقيقة بنظر الإعتبار، لا يراودني قلق كبير من التأثيرات السلبية والمشتتة التي تركتها مرحلة البرزخ هذه على أوضاع حزبنا وممارساتنا الحزبية. برأيي، يستحيل أن تتحرك في تلك المرحلة، بصورة تامة ومطلقة، خلاف حدث تأريخي جلل. يستحيل القفز فوق العديد من هذه التأثيرات. يمكنك المحافظة على الخنادق الأصلية وتعد نفسك لموجة العودة، وهذا ما قمنا به. لكن يستحيل فرض أشكال خاصة من النضال الفكري والعملي بصورة واسعة علىأناس تراودهم في الواقع الشكوك حول فائدة وجدوى هذا العمل بسبب الأوضاع العالمية. من المحتمل أن يكون العمل الشيوعي المباشر حتى لاؤلئك الذين يدركون ضرورته، في خضم هذه المرحلة الخاصة، تبدو فئوية وعقيمة. ومهما يكن أمر حكمنا فيما يخص ما ينبغي أو لا ينبغي القيام به في المرحلة السابقة يتعلق كلامي بأن هذه المرحلةقد ولَّت. إن هذه الأعمال ليست فئوية وعقيمة.

إن هذه حركة إشترك فيها أناس مختلفين بطاقات وخلفيات وميادين مختصة ومختلفة. برأيي، ينبغي على مجمل أولئك القادرين على أن يضعوا على عاتقهم تنظيم الحلقة الأصلية للفعالية الشيوعية المباشرة في الميادين المختلفة دون أن يصرفوا طاقات هرقلية أن يقوموا بذلك. إن بحثي لا يعني إن على الجميع القيام بفعالية خاصة من الآن ولاحقا أو في الواقع مثل (تأدية) الصلاة. إنها مهمة حزب إيلاء الإهتمام اللازم حتى يحشد ويعد قوى لمثل هذه الفعالية. أعتقد شخصياً إن الماركسية قد تخطت هذه المرحلة الصعبة. حين ننظر لا نرى آيديولوجيات البرجوازية في حالة هجوم. ليس هذا فحسب، بل إنها ذاتها تغط في أزمة. إن تيارات آيديولوجية أصيلة عاجزة حتى عن الإصطفاف البسيط بوجه نمو الفاشية. عاجزة حتى عن الدفاع عن العلمانية التي كانت، لعدة عقود، وبعض الأحيان لقرون، هي النظام السائد في العديد من المجتمعات الغربية. عاجزة عن الحيلولة دون دخول التعليم الديني إلى المدارس. عاجزة عن الرد على النزعة القومية التي تخل عمل الرأسمالية ذاتها. وأخيراً، حتى الفاشية والقومية العرقية التي هي تيارات آيديولوجية منفلتة العقال لهذه المرحلة في العالم الرأسمالي تخطتا أوجهما وتراوحان في مكانيهما. لا أرى ثمة ميل في الآيديولوجيا البرجوازية قادر على تبوأ مكانة تؤهله لا على شن هجمته التي تعد أمراً سهلاً، بل على مجابهة الماركسية والشيوعية العمالية. بوسع الشيوعية العمالية أن تسترد هيئتها الواقعية، أي تيار ينتقد ويهجم ويجمع القوى في المجتمع. تيار يتجلى عمله في تغيير العالم لا، مثل السنوات الأخيرة، مجرد صد هجمة البرجوازية. في هذه السنوات الـ (٦-٧) المنصرمة، إستطعنا المحافظة على الخنادق. لقد أزفت الساعة الآن لرفع قاماتنا عالياً ونتقدم. من المحتمل أن نضطر مرة أخرى بعد عدة خطوات الى الوقوف ونحافظ على المكانة التي حصلنا عليها. بيد إنه لامراً مسلماً به إن زمان تقدمنا قد حلَّ.

إن العمل الشيوعي، العمل الشيوعي المباشر هما العبارة المحورية لهذه المرحلة.أما بعد ذلك، قد ينبغي علَّي إضافة ملاحظة إنه لأمراً مؤلماً قول ذلك. في الواقع أخشى حين أتحدث عن الأهمية الحياتية للعمل الشيوعي المباشر أن ينبري مرء ما ويفسر كلامي على إنه أمر جلي بأني لا أقر بأولوية لأعمال أخرى مثل على صعيد الإتحاد العام لمجالس اللاجئين، العمل مع لجان التضامن العمالية، والعمل مع عامل اليوم(جريدة أممية عمالية تصدر بالفارسية والانكليزية يدعمها الحزب- م) وغيرها. يجب القول مسبقاً كلا. هذا ليس ما أعنيه. لقد كررت مراراً إن قدرات الشيوعيين في تنظيم وهداية والتأثير على طيف واسع من نضالات وحملات من هذا الطراز ناجم، على وجه الدقة، من كوننا شيوعيين، ومن عملنا الشيوعي. شيوعي على وجه الدقة لأننا شيوعيون ونتحدث بلغة شيوعية بين العمال، ونقوم بعمل شيوعي لأن مجمل القدرة الفكرية والعملية والتنظيمية للحركة الشيوعية العمالية لها ركيزتها وسندها وتجد لها نفوذاً في سائر الحركات وسائر أبعاد النضال الإجتماعي. إن الشيوعيون بوصفهم قادة يتسمون بالراديكالية والإشتراكية والنقد الراديكالي للمجتمع والحركات الجارية ويكسبون نفوذاً ومكانة في النقابات والحملات وجبهات النضال التحرري ويتركون أثراً. إن العمل الشيوعي والهوية الشيوعية ليستا بديلاً لإبراز الوجود في سائر ميادين النضال الإجتماعي، بل إنها الشرط اللازم لدى الشيوعي للنجاح في هذه الميادين. إذا أراد الشيوعي أن يلعب دوراً في النقابات، فعليه أن يلعبه وهو شيوعي. والا ظهر الكثير من أنصار الحركة النقابية أفضل منّا. إن العمال يتبعون الشيوعيين لأنهم يعرفون بالضبط إن الشيوعيين يملكون رداً. برأيي، يجب الإرتقاء بفعاليتنا في الميادين الأخرى بدرجات لان من المقرر أن نشارك فيها بوصفنا شيوعيين لا فعالين بسيطين لنفس الميادين. إن النضال بأشكال وميادين مختلفة لم و لا يناقض قط التحلي بآيديولوجيا وهدف أساسي وإدراك واضح للصراع الطبقي وانتماء عميق إلى حركة وحزب شيوعي عمالي. وعليه، فإن هذه الملاحظة التي تؤكد على إن العمل الشيوعي هو نداء لتقليص فعاليات متنوعة وجانبية للحزب، ميكانيكية وغير مبررة إلى أبعد الحدود. ينبغي على المرء أن يتمكن أيضاً من قيادة الدراجة وإطلاق الصافرة في آن واحد. ولا يستلزم من المرء النزول لإطلاق الصافرة! بمقدور حركتنا، على وجه الدقة، وفقط بهمة أناس، أن تنطلق للأمام – أناس يستطيعون أن يعملوا بشكل حي ومتنوع، أناس يقودون الدراجة ويصفروا. أن يكونوا شيوعيين وينشطون في النقابات، شيوعيون ويتخندقوا في مقدمة صف نضال جاري ضد التمييزوالحرمان...

على اية حال مثلما ذكرت إن التخفيف من العمل الشيوعي بالمعنى الخاص للكلمة والرضا وإنكفاء الفعال الشيوعي وإحالته إلى فعال حركات وحملات متنوعة ليس أمراً وليد الصدفة. بل حصيلة مرحلة خاصة إنتهت الآن. لكن إدامة ما كان يعد في المرحلة السابقة أمراً مفهوماً، لن يعد في المرحلة القادمة التي نولجها أمراً مستساغاً ومبرراً.

يتحتم القول، فيما يتعلق بالأفراد وتعمقهم وإعادة نظرهم في المرحلة السابقة، ثمة فرصة طويلة للنظر مجدداً بأنفسهم وبالحياة والسياسة ودورهم في النضال الإجتماعي. لقد أزفت ساعة مشاهدة ثمرة أشكال التمعن هذه وتحديد المصائر. أن جهة التحرك واضحة فيما يخص أولئك الذين في هذا الميدان. إن الطريق سالكة أمام الفعالية الشيوعية المكثفة بدون الإنزلاق نحو الهامش أو التخفيف منها. إذ تُمحى عوائق الأمس وضغوطاته من أمام طريقنا. إن كان ثمة عمل إستعصي على القيام به بالأمس بحكم الظروف، فإنه يمكن القيام به اليوم. إذا كان يبدو هذا التطلع نحو قيام فعالي الحزب بتشكيل حلقات لقراءة البيان الشيوعي ورأس المال وتوسيعها بعيد المنال في خضم الهجوم السياسي والدعائي العاتي على الشيوعية في المرحلة السابقة، فإنه ليس كذلك اليوم.

إن ما أود بوصفي أحد المشاركين في هذا المؤتمر أن يتداعى به هذا المؤتمر وأن يستمد منه معناه هو إبراز السمة الشيوعية للحزب. وأود أن يقال لاحقاً إن في هذا المؤتمر قد تم إسترداد مكانة العمل الشيوعي والخطط والمشاريع الشيوعية وتسليط الضوء الشيوعي على طيف واسع من فعاليتنا. آمل أن ينحو هذا المؤتمر نحو هذه الجهة، وإن رغبتي تماثل تطلعات الكثير من الرفاق الآخرين. إن بحثي لا يتعلق بإصدار إرشادات أو بلاغ وقرار خاص. بل أنشد الإهتمام الايجابي لنفس كوادر الحزب.

نحن حزب تحثنا مجمل مسائلنا وأمورنا وخلفيتنا وسياستنا على إتخاذ موقف الهجوم. إ ن حزباً حضر ممثلوه هذا المؤتمر ليس مدين من الناحية السياسية والعقائدية لأي أحد في اية زاوية من العالم. إنه تيار يبعث على الفخر ويعلن اليوم، بشهادة نفس المؤتمر، في نهاية مرحلة سميت (نهاية الشيوعية)، عاشت الشيوعية العمالية، ويدعو إلى بدء مرحلة هجومية شيوعية عمالية على النظام البالي والمتهريء للرأسمالية. يجب أن يكون هذا المؤتمر مؤتمر هذا النداء.


منصور حكمت


تم نشر هذا النص لأول مرة في جريدة إنترناسيونال العدد - ١٥ - الصادرة في أيلول ١٩٩٤
تمت الترجمة عن المجلد الثامن لأعمال (منصور حكمت) الصادر في تشرين الثاني ١٩٩٧


ترجمة: فارس محمود
m-hekmat.com #0740ar.html