خارج قطبي الصراع الرجعي المعاصر، أي عسكرتارية امريكا والدول الغربية من جانب، ومعسكر الاسلام السياسي والجماعات الارهابية الاسلامية من الجانب الآخر، تشكل أجواء القلق والاضطراب، الأجواء السائدة على أغلبية الجماهير الانسانية والمتطلعة للسلام في العالم. انها اجواء اليأس. فالجميع قلقون من وخامة الأوضاع وتعقدها، أي تنامي سباق الجنون والارهاب، التشرد وموت مئات الآلاف من الناس الأبرياء في أفغانستان، الهجوم الكيمياوي والجرثومي على الغرب، الانفجار السياسي في باكستان، وقوع القنابل اليدوية "المحمولة" و"الموجهة" بيد المغامرون والمتعصبون الدينيون والمجرمون العالميون. "حرب امريكا الجديدة" ومرحلة جديدة من نزيف الدماء العالمي بمستوى لم ولن يقدر عليه سوى امريكا. ان شعارات واحتجاجات الناس الشرفاء في العالم تسعى بشكل عام للحفاظ على الأوضاع الموجودة واعادتها الى نقطة التوازن السابقة. انها بششرية فقدت املها بمستقبل أفضل، وهي تطالب في أفضل الاحوال بالاستقرار، وتهرب من القنابل والحرب والعنف، بشرية تعرف رغم مظهر تفكيرها الساذج وقلة وعيها وخضوعها اليومي، القدرات المعادية للانسانية للوحوش الذين دخلوا الميدان، أي الاسلام السياسي والعسكرتارية الامريكية، وتريد التصدي بأي ثمن للمآسي المقبلة. ومن بين الطيف الواسع للقوى التي دخلت الميدان لمناهضة هذا الصراع، بقايا محافل اليسار الهامشي في اوروبا التي لم تكن ترضى لحين ١١ ايلول بشيء أقل من "الثورة العالمية"، وهي تطالب الآن فقط بالاستقرار، وتسعى لايقاف التيار الجاري الآن، وتحاول الحفاظ على الأوضاع الموجودة واعادتها الى نقطة توازن ما قبل ١١ ايلول، وهذه هي السياسة السائدة والمهيمنة عليها. فالتخاذل هو الاتجاه المهيمن والسائد على حركة المقاومة. وهذه السياسة ضارة لدرجة لايمكن تصورها ولا تعجز فقط عن منع حدوث المصائب والمآسي المقبلة، بل وانها تضمن وقوع تلك المآسي والكوارث والنكبات.
السياسة التخاذلية، والصدمة بالجوانب العسكرية لهذه المواجهة والعنف الفيزيقي الذي من الممكن أن يحل بالعالم، تحمل بالضبط تلك الأضرار التي تصيب الناس بالشلل السياسي. ان التصدي لهذا السباق الأرهابي وهذه الموجة من الانفجارت والتدمير والابادة الجماعية التي يعدونها لنا مرهون بتدخل جموع الجماهير الواسعة، في اوروبا وأمريكا وأيضا في الشرق الأوسط والبلدان المسماة ببلدان العالم الثالث في المسارات السياسية التي ستنتجها هذه الأحداث. تدخل قائم على اساس برنامج عمل فعال وايجابي. وفي هذه الحالة ليس بالضرورة أن يكون أفق المستقبل مظلما. ومن الضروري اخراج تلك المسارات والوقائع السياسية من تحت رماد الدعاية الحربية.
في الجانب الآخر للدعاية الرسمية: الارهاب والاسلام السياسي
لا أشك في أن أي شخص، حتى داخل نفس الجيش الأمريكي، يقبل هذا التفسير القائل أن جريمة ١١ ايلول هي عمل جماعة متعصبة يوجهها من افغانستان شخص يدعى اسامة بن لادن وهو له عداء شخصي وأعمى مع امريكا و"نمط الحياة" الامريكية و"الديمقراطية". وتصر وكالات الانباء الغربية على أن هذا العمل لم يكن من أعمال من "أعمال المسلمين"، ولم يكن نابعا من " تعاليم القرآن". ويسعى الصحفيون المحنكون، قدر الامكان، لطمس حضور اسم القضية الفلسطينية واسرائيل فيما يجري . ويقولون أن أي ربط للقضية الفلسطينية بهذه الهجمة الارهابية يعني القبول بأن هذا العمل كان له أثر في جلب أنظار الغرب الى أوضاع الفلسطينيين. وبالنتيجة يحيلوننا الى بن لادن وأفغانستان بدلا من الاسلام السياسي واسرائيل. حرب امريكا مع طالبان هي حدث بالغ الأهمية وسيكون لها نتائج بعيدة الأثر على صعيد المنطقة والعالم. وستترك هذه الحرب، من دون شك، آثارها على مصير الاسلام السياسي وحتى على القضية الفلسطينية. اما عن علاقتها بملاحقة ومعاقبة الضالعين بتنفيذ جريمة ١١ ايلول، فليس لها أية علاقة بهذا الأمر وحتى أنها ستشدد أكثر من احتمالات الأعمال الارهابية الموجهة ضد الغرب. (سأعود الى هذا الأمر لاحقا).
ان الارهاب الاسلامي هو واحدة من وقائع عصرنا الراهن. ويشكل هذا الارهاب ركنا من اصليا في استراتيجية الاسلام السياسي. فالاسلام السياسي بوصفه حركة رجعية في المنطقة وحاليا على صعيد العالم، تتغذى وتتعكز على على الاضطهاد التاريخي لاسرائيل والغرب الممارس بحق الناس الناطقين بالعربية وبالتحديد بحق جماهير فلسطين. فانعدام وجود بلد لجماهير فلسطين وظلم واضطهاد الحكومة الاسرائيلية وحلفائها الغربيين للفلسطينيين هو مصدر رئيسي للسخط والنفور من الغرب وأمريكا في منطقة الشرق الأوسط. والأهم من هذا أن وجود القضية الفلسطينية، ودعم امريكا والغرب المستمر لسرائيل مقابل العرب سواء في مرحلة الحرب الباردة او بعد ذلك، أوجد هوة واسعة وكبيرة اقتصادية وثقافية ونفسية بين الغرب والجماهير في الشرق الأوسط. أما أن يحصل الاسلام السياسي كحركة على على فرصة البروز والحضور وجعل هذه الهوة والسخط والاحتجاج الى رأسمال له والخروج من هوامش المجتمعات في الشرق الأوسط نحو قلب الصراع على السلطة السياسية، فأن هذا هو نتاج مباشر لأمريكا والغرب نفسهما. فالاسلام السياسي كحركة مجرمة بهذا المدى الواسع من الاقتدار، هو من صنع امريكا والغرب.فهذا الكابوس والوحش الكاسر هم نفسهم صنعوه واطلقوا وثاقه كي ينشب مخالبه في ارواح جماهير المنطقة واليوم ينشب مخالبه في ارواح الناس في العالم. لقد كان الاسلام السياسي وسيلة بيد الغرب في الحرب الباردة ضد السوفييت ووسيلة لهزيمة الحركات والثورات اليسارية والعمالية في كل بلدان المنطقة. انه وسيلة استخدمت بعد ازمة وفشل الحكومات القومية في الشرق الاوسط للوقوف بوجه اقتدار اليسار وقوته. وتشكل القضية الفلسطينية ووجود الحكومات الاسلامية في الشرق الاوسط ركائز الارهاب الاسلامي. ان اية سياسة فعالة وطليعية جماهيرية لمواجهة الارهاب الاسلامي ينبغي أن تبدأ من هنا:
١ - حل القضية الفلسطينية. ينبغي حل هذه المعضلة التاريخية. ينبغي ان تتمتع جماهير فلسطين ببلدها المستقل. وينبغي اجبار امريكا والدول الغربية على التخلي عن الدعم الاحادي الجانب لاسرائيل. ينبغي اجبار اسرائيل على الرضوخ للسلام واستقلال فلسطين. فحل القضية الفلسطينية اهم اركان مواجهة الاسلام السياسي والارهاب الاسلامي وجزء اصلي من برنامج عمل متقدم وفعال ازاء الاوضاع الراهنة.
٢ - على الغرب ان يتخلى عن مساندته ودعمه الرجعي للدول الاسلامية والتابعة وعن دعم الاحزاب والحركات الاسلامية في الشرق الاوسط. فبدون دعم الغرب لم يظهر النظام الاسلامي الايراني ولن يضل في البقاء. بدون دعم الغرب لن تبقى قائمة لأنظمة العبودية ومشايخ السعودية والامارات. بدون دعم الغرب لا تعجز فقط طالبان، بل وكذلك جماعات المجاهدين المسلمين السابقة عن تحويل افغانستان الى مسرح لمأساة انسانية عظيمة. فبمجرد قطع الغرب لمساعدته ودعمه السياسي والعسكري والدبلوماسي للحركات الاسلامية ستقوم جماهير المنطقة باسقاط هذه الحكومات. ولذلك فان مطلب اسقاط الحكومات الاسلامية والوقوف بوجه مساومات امريكا والدول الغربية مع تلك الحكومات ينبغي ان يكون جزءاً مهماً آخراً من برنامج عمل مناهضة الارهاب لأية حركة تقدمية جماهيرية.
٣ - يجب انهاء الحصار الاقتصادي المفروض على العراق. فقد تحولت مصائب ومآسي جماهير العراق الى قضية فلسطينية ثانية في اذهان جماهير المنطقة. وتحولت الى دليل حي على الارهاب الامريكي والغربي في الشرق الاوسط. عدا ذلك فان هذا الحصار الاقتصادي قد اطال عمر الحكومة الرجعية العراقية وفرض تراجعاً على الجماهير العراقية المحرومة ودفع بها من ميدان النضال السياسي الى الصراع اليومي من اجل البقاء الفيزيقي. ان النضال من اجل رفع الحصار الاقتصادي عن العراق هو ركن آخر من برنامج العمل التقدمي ضد الارهاب الاسلامي.
٤ -ينبغي الحضور الفاعل الى الميدان للدفاع عن العلمانية في البلدان التي يسكنها المسلمين وفي الاوساط الاجتماعية الاسلامية داخل نفس البلدان الغربية. فقد كان للأفكار المتخلفة حول تعدد الثقافات والتقصير في الدفاع عن الحقوق المدنية والانسانية للناس وخصوصاً النساء في تلك البلدان والاوساط الاجتماعية، دور في اطلاق يد الاسلام السياسي لبث الرعب في قلوب الناس وتحريك الشباب بهذا الاتجاه. ينبغي النظر الى عالمية حقوق البشر والحقوق المدنية كمبدأ وشجب واستنكار أي مساومة مع الدين وسلطة الدين الرجعية على حساب حقوق البشر.
ان الارهاب الاسلامي هو حقيقة قائمة. الا أن الارهاب ليس من اعمال المسلمين، بل هو سياسة رسمية لحركة اسلامية. وهي حركة عقيمة وصنيعة الغرب في خظم الحرب الباردة وفي الصراع المعادي للشيوعية ضد العمال والجماهير التحررية في الشرق الاوسط. انها حركة ضعيفة ومتداعية. ولا تمتلك نفوذاً سياسياً يذكر في البلدان الكبيرة في المنطقة. وهي اكثر تخلفاً عن الواقع الاجتماعي في المنطقة. وبدون حماية الغرب سيهزم الاسلام السياسي من قبل الاشتراكية والعلمانية في هذه المنطقة. ففي ايران، التي تشابه فلسطين، بكونها واحدة من اهم ميادين تقرير مصير الاسلام السياسي، بدأ الآن افول وسقوط الاسلام السياسي.
في الجزء القادم:
* حرب امريكا في المنطقة، التي اشتعل فتيلها الآن في افغانستان، ليست حرباً ضد الارهاب،لا لأنها فقط لا تجيب على مستلزمات النضال ضد الارهاب الاسلامي التي عددت نقاطها فيما تقدم، بل وانها تستند ايضاً على بعض التيارات الاسلامية نفسها. ومع ذلك فان امريكا تخوض، برأيي، الآن صراعاً مع الاسلام السياسي. هذه الحرب حرب من اجل الهيمنة والسلطة. وسيؤدي هذا الصراع بالضرورة الى اضعاف الاسلام السياسي. الا أن هدف الغرب ليس حذف الاسلام السياسي، بل اضعافه وتقليم اضافره والقيام باعادة ترتيب جديدة داخل صفوفه لخلق نقاط توازن جديدة داخلها. فالحرب في افغانستان هي حرب من اجل اعادة تعريف علاقة الغرب بالاسلام السياسي. وعلينا ان كسر هذا الاطار والتصدي لهذه المساومة الجديدة وتعقب سياستنا المستقلة بشكل فاعل في ظل الأوضاع الراهنة من اجل انقاذ المنطقة من القوى الرجعية.
* لا يرى الموقف التخاذلي هذا الصراع الجديد بين الغرب والاسلام السياسي، ولا يرى أهمية ذلك سواء بالنسبة للناس الذين هم ضحايا تلك الحركات الرجعية او بالنسبة لمسار التغيرات السياسية المقبلة في العالم ويعتبر نفسه غير مكلف بانجاز اية مهمة بهذا الخصوص. وهنا ينبغي بعث النقد لهذا الموقف المسالم والمتحفظ داخل حركة المقاومة الجماهيرية ضد الارهاب والعسكرتارية.
* بسب الابعاد والجوانب التاريخية لهذا الصراع، فان الخصائص الايديولوجية والمعنوية لجماهير العالم المعاصر خصوصاً في الغرب تختلف كثيراً عنها في مرحلة الهجوم على العراق وحتى مرحلة الهجوم على يوغسلافيا. فبالتوجه الواسع من قبل الناس نحو السياسة والنضال المدني، ستخرج العسكرتارية الامريكية من هذا الصراع اضعف من الناحية السياسية. فالصراع الراهن، الذي يدور حول زوايا معينة من النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، يمكنه، في حالة دخول العنصر الطليعي، سيعرّض مجمل القضية ونفس موضوع الزعامة العالمية وغطرسة امريكا العسكرية الى طائلة النقد على صعيد اجتماعي. وهذه من منظار التطلع للحرية والمساواة أهم على الصعيد العالمي بكثير من مصير الاسلام السياسي.
منصور حكمت